(أنا آسف)... ما أصعب هذه العبارة على الكثير منا إن هو أخطأ بحق غيره! أما عبارة (إنها غلطتي) فهي أشد صعوبة علينا من طعن القنا وخفق البنود - إلا من رحم ربي. والمؤسف أن مثل هذه العبارات من الندرة بحيث أن آذاننا لم تعتد سماعها رغم كثرة الأخطاء والخطائين فينا، وكأنها إن خرجت من أفواهنا اقتلعت معها المعدة والمريء ومزقت حبالنا الصوتية!إن اعتذار المخطئ لمن أخطأ بحقه واجب على الأول وحق للثاني، ولذلك فلا غرو أن يشترط الله - سبحانه وتعالى - عفوه بعفو من وقع عليه الخطأ في حالات كثيرة كالغيبة والنميمة والتشهير والافتراء والسرقة، الخ؛ فهي حالات لا يقبل الله فيها توبة المذنب إلا بعد صفح "المجني عليه".. وفي ذلك رسالة واضحة حري بنا الوقوف عندها.للاعتذار ( الاسف ) معانٍ عظيمةلكلمة "آسف"- وأخواتها- دلالات عظيمة، منها:1- تواضع قائلها وإقراره ببشريته التي من صفاتها النقص والخطأ والنسيان والتقصير، واعتراف بعدم امتلاك صفة الكمال التي هي لله وحده. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (أحمد والترمذي وآخرون).2- مراعاة لإنسانية الطرف الآخر ومشاعره.3- الحرص على إدامة العلاقات مع الآخرين: وهو مؤشر على "الاجتماعية" والبعد عن "الانطوائية".4- الصدق والشفافية ونكران الذات والإيثار والبعد عن التعالي والغرور والأنانية.5- دليل على الكرم وبراءة من البخل.ومما يحسب للمجتمعات الغربية رسوخ ثقافة الاعتذار والاعتراف بالتقصير الى درجة أنك لا تكاد تتحدث مع "خواجة" بضع كلمات حتى تسمع منه كلمة "" sorry تتردد على لسانه بين الحين والآخر كتردد عبارة "إن شاء الله" على ألسنتا كلما ورد في كلامنا فعل يدل على الاستقبال أو وعد بإنجاز أمر ما- سواء كنا صادقين في ذلك أو مترددين أو حتى غير صادقين! فهو- أي الخواجة- يقولها إن قاطعك أو طلب منك إعادة كلمة أو عبارة لم يسمعها جيدا أو مع كلمة "لا" إن طلبت منه شيئا ليس بوسعه أو ردا على سؤال لا يملك إجابة عليه.. وفي غيرها كثير من الحالات.أما في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، فهذه الثقافة – للأسف- تكاد تكون منقرضة انقراض الديناصور المجنح - رغم أن ديننا الحنيف يحثنا على التحلي بكل الصفات الحميدة.. ومنها الاعتذار لمن نسيء إليهم.الاعتذار (الاسف ) ليس منقصةيظن البعض أن الاعتذار للآخر منقصة وخدش للكبرياء، وهذا الظن بحد ذاته إساءة تستوجب الاعتذار. فالزوج الذي يخطئ بحق زوجته – وما أكثر هذه الحالات! - "يترفع" عن الاعتذار لأنه "يخدش" رجولته و"ينقص" من هيبته! والمدرس يفضل أن يُخصم منه نصف شهر على أن يعتذر لطالب ظلمه أو أخطأ في حقه؛ والأب قد يرى في اعتذاره لابنه أو ابنته "تنازلا عن مقام الأبوة"؛ وقد يقاطع أحدنا صديقه أو حتى أخاه شهورا أو سنوات لا يكلمه ولا يسلم عليه بسبب صعوبة كلمة "آسف"؛ والمدير يستسهل "تفنيش" الموظف الذي غمطه حقه وثلاثة من زملائه المجاورين له على أن يعتذر له.. وبذلك يكون خطأ كل واحد من أولئك خطأين بدلا من خطأ واحد.أذكر أني أخطأت بحق زوجتي ذات مرة، فأحسست بذنبي وبدأت أسترضيها وأتودد إليها سعيا إلى الصلح، فقالت (قل: أنا آسف)، فاستغربت من عدم كفاية الاعتذار العملي – الذي ظننته أبلغ من الاعتذار الشفوي- فقلت لها "أنا آسف" (ولا أخفيكم.. وجدت صعوبة في ذلك حينها، لكني أزعم أن هذه الكلمة أصبحت منذ ذلك اليوم سهلة النطق ولا تقل سلاسة عن شرب عصير المانجو – الذي لا أطيقه!).قبول الاعتذار ( الأسف ).. نبل وكرمإن استعداد الطرف الواقع عليه الخطأ لقبول اعتذار المخطئ لا يقل أهمية عن استعداد المخطئ للاعتذار، فهما طرفا المعادلة التي لا تتم بدون أحدهما. فلو أن مخطئاً اعتذر ولم يلق اعتذاره صدى لدى الطرف الآخر فسوف يفعل أي شيء مستقبلا إلا الاعتذار.. وربما اعتذر لنفسه وكرامته على اعتذاره هذا.وقد يظن البعض أن قبول اعتذار المخطئ ومسامحته يشجعه على التمادي في الخطأ، وهذا ليس صحيحا، بل على العكس، إن رفض اعتذاره هو الذي سيشجعه على الخطأ، فهو سيخطئ في كل الأحوال لأنه بشر، لكن الفرق هنا سيكون بين مخطئ يعتذر فيُقبل اعتذاره - وربما يعد بعدم تكراره إكراما لمن قبل اعتذاره- ومخطئ لا يُقبل اعتذاره فيكرر الخطأ دون اعتذار.. فأي المخطئين نريد؟يقول الحق – سبحانه- مخاطبا نبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم -: ".. وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ.." (آل عمران: 159)ورسولنا الكريم- صلى الله عليه وآله – لم يكن مثالا في مقابلة اعتذار المخطئين بالصفح والعفو فحسب، وإنما في سرعة مبادرته للاعتذار من غيره كذلك إن هو صدر منه ما يستوجب ذلك. روى ابن إسحاق "أنَّ رسول لله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح ]قضيب صغير – وفي رواية: سواك] يُعدل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزية وهو مستنصلٌ [أي خارجٌ] من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: استوِ يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدني [أي مكني من الاقتصاص منك]، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد يا سواد. قال: فاعتنقه فقبل بطنه، قال صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأحببتُ أن يمسَّ جلدي جلدك." (سيرة ابن هشام: 2/278)الجدير بالملاحظة أن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لم ينظر إلى هذا "الخلاف" على أنه بين طرفين غير متكافئين: القائد العام للقوات المسلحة مقابل جندي مغمور، ولم يقل له: (ليس الآن وقتها ، نحن الآن في حالة حرب.. تعال بكرة ويصير خير)، وإنما حسم الموضوع في لحظته وهم في مواجهة العدو.. وبطريقة ملؤها التواضع وخفض الجناح – بأبي هو وأمي.فما أجمل أن نقر بما يصدر منا من خطأ أو تقصير دون عناد أو مكابرة.. وما أجمل أن نتقبل اعتذار المخطئين – امتثالا لقوله تعالى: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور:22) واقتداءً بالرحمة المهداة – صلى الله عليه وسلم- القائل: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا." (رواه مسلم وغيره) من علّمنا أن الاعتذار ضعفٌ وإهانةٌ ومنقصة ؟؟
من علّمنا أن نقتل بداخلنا هذه الصفة النبيلة ؟؟
من علّمنا أن في الاعتذار جرحٌ للكرامة والكبرياء ؟؟
حقا الاعتذار من أنبل الصفات الانسانية .
هو دليل نقاء القلب وصفاء النفس .
وحلاوة الروح .
وليتنا نكون متسامحين مع أنفسنا ابتداءً
ومع الآخرين انتهاءً .
عندها لن نجد في عالمنا هذا ذرةٌ من خلاف
فاصلة
======
قد أخطئ أنا أو تخطئ أنت
وقد نتقاسم الأخطاء
ولكن خيرنا من يبدأ بالسلام
وختاما
من أكرمك .. فأكرمه