حفل التاريخ الإسلامي بصفحات مضيئة لشخصيات عبقرية ابتليت بالاعاقة، لكنها أبدعت وتميزت عن غيرها ممن تمتعوا بحواسهم الكاملة وسنستعرض في مقالنا هذا بعضاً من هذه الشخصيات ممن فقدوا نعمة البصر أو كانوا من الصم أو أصيبوا بالعرج أو غيرها من العاهات .. نتوقف قليلاً عند سيرتهم لتكون نبراساً يضيء درب المعاقين في كل زمان ومكان..
ترجمان القرآن: عبدالله بن عباس
لقب بترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو ابن عم الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، ولد في مكة ولازم النبي (صلى الله عليه وسلم) وروى عنه الأحاديث الصحيحة، وفقد بصره في الكبر، كان يعرف أن الله تعالى عوضه عن بصره خير العوض، لذا قال: إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وسمعي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف مشهور وقد أضاءت هذه البصيرة النافذة صدره حين دعا له الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يضمه إلى صدره قائلاً: «اللهم علمه الكتاب»(صحيح البخاري).
وظل عبدالله بن عباس ينهل من العلم والحكمة والمعرفة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره في كل أمر ولقبه بـ «فتى الكهول»، وقال عنه ابن مسعود: ما رأيت مجلساً كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس .. الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر. لقد تحدى كل شيء وأبدع في العلم والفقه والرواية وعُمِّر حتى توفي في عهد عبد الملك بن مروان سنة 68 هـ عن واحد وسبعين عاماً.
الشهيد الأعمى .. عبدالله بن أم مكتوم
كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) كلما رآه يقول له: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي»! تحمّل الكثير من المشقة في سبيل إعلان دينه فهاجر مع مَنْ هاجر من مكة إلى المدينة ورغم فقده البصر شارك مشاركة فعلية في الدعوة الإسلامية، فحفظ القرآن الكريم وروى عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الكثير من الأحاديث، وكان لجمال صوته يؤذن للصلاة مع بلال بن رباح.
أتى عبدالله يوماً يريد سؤال الرسول (صلى الله عليه وسلم) في مسألة دينية فأعرض عنه لانشغاله بسادة قريش فأصابه الهم والحزن لإعراض النبي (صلى الله عليه وسلم) عنه، وهبط الوحي بقوله تعالى: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذّكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى. فأنت له تصدّى. وماعليك ألا يزّكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى}(عبس 1*10).
وهذا الموقف الذي جاء في هذه الآيات يدل دلالة عظيمة على مكانة هذا الصحابي الجليل عند الله تعالى... لقد عاتب الله نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) بسبب إعراضه عنه، ولهذا أرسل إليه واسترضاه وكان كلما رآه قال له: «مرحبا بمَن عاتبني فيه ربي، ألك حاجة نقضيها» ويقربه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من نفسه لمنزلته عند الله ولعلمه وأدبه، لقد استخلفه الرسول (صلى الله عليه وسلم) على المدينة المنورة ثلاث عشرة مرة في أثناء الغزوات، كما استخلفه في حجة الوداع.
ولم يبال ابن أم مكتوم بفقد بصره، فأسرع ليشارك في معركة القادسية تحت قيادة سعد بن أبي وقاص، ويقف مستندا على ذراع أحد المسلمين ويعتلي ربوة عالية وهو يصيح: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين، ويحاول المسلمون ثنيه عن عزمه وهو يصيح ويطالب باللواء حتى نال نعمة الشهادة في هذه المعركة.
عبدالرحمن بن عوف
عبدالرحمن بن عوف أحد الصحابة الثمانية الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام، وقد أسلم على يد أبي بكر الصديق وكان اسمه عبد عمرو، ولد في مكة سنة 43 قبل الهجرة، وعندما أسلم دعاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عبدالرحمن، وأمه هي الشفاء بنت عوف وقد أسلمت وهاجرت، وفور إسلامه نال حظه من اضطهاد قريش وبطشها، وهاجر مع المسلمين إلى الحبشة في الهجرة الأولى والثانية، ثم هاجر إلى المدينة ليشهد الغزوات والأحداث مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويكون من الصحابة الأبرار المقربين إلى الله ورسوله المبشرين بالجنة.
وفي معركة أحد أصيب عدة اصابات في مختلف أنحاء جسده سببت إحداها عرجاً دائماً في ساقه، والأخرى أسقطت ثناياه وتركت هتماً واضحاً في نطقه، وفي غزوة تبوك تصدق بجميع ما يملك في سبيل تجهيز جيش المسلمين ولم يترك لأهله شيئاً فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): هل تركت لأهلك شيئاً يا عبدالرحمن؟ فقال له: نعم تركت لهم أكثر مما أنفقت وأطيب: ما وعد الله ورسوله من الرزق والخير والأجر.
وكان ابن عوف كثير التصدق حتى قيل إن أهل المدينة جميعاً شركاء لابن عوف في ماله، ثلث يقرضهم، وثلث يقضي عنهم ديونهم، وثلث يصلهم ويعطيهم، حتى إن عائشة أم المؤمنين وعثمان بن عفان قد نالهما من خيرات ابن عوف.
وعندما طعن عمر بن الخطاب أخذ بيد عبدالرحمن بن عوف فقدمه للصلاة، ثم جعله من أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده، وقال: «لقد توفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو عنهم راض».
وتوفي عبدالرحمن بن عوف عام 32 هجرية فشيعه علي بن أبي طالب وهو يقول: لقد أدركت صفوها وسبقت زيفها * (يقصد الدنيا) رحم الله الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف.
عثمان بن مظعون.. المهاجر إلى الله
هو القائل: فإن تك عيني في رضا الله نالها يدا ملحدٍ في الدين ليس بمهتدي فقد عوض الرحمن منها ثوابه ومَنْ يرضه الرحمن يا قوم يسعد حين أعلن عثمان بن مظعون إسلامه وأضاء القرآن الكريم قلبه ذاق من أذى المشركين ما لا يتحمله بشر، ولما أمره الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالهجرة مع مَن أسلموا إلى الحبشة هاجر، بعدها طلب أن يكون في حماية الوليد بن المغيرة من إيذاء المشركين، لكنه تراجع وآثر ألا يستجير إلا بالله سبحانه وتعالى رغم إلحاح الوليد، وفقد عثمان إحدى عينيه في اشتباك فقال عندها: «إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار مَنْ هو أعز»، وراح يتغنى بشعره في محنة عينه، وتحمل إيذاء قريش بإيمان لا يلين ولا يهتز، وهاجر مع المهاجرين إلى المدينة ليبدأ حياة العبادة والزهد والجهاد في سبيل الله، ولما زادت آلام عينه وضعفت مقاومة جسده سقط ترفرف عليه راية الإيمان والصدق والإرادة، وأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة عليه ليكون أول من يدفن في البقيع.
الترمذي.. من أصحاب السنن وعلماء الحديث
عالم جليل كفيف من أشهر الأئمة في علم الحديث، وهو من تلاميذ الإمام البخاري، واسمه محمد بن عيسى المولود سنة 209 هـ بإحدى قرى خراسان والملقب بالترمذي وعرف عنه مقدرته الفائقة على الحفظ.
تنقل الترمذي في أرجاء البلاد طلباً للعلم، التقى بعلماء الحديث وحفظته المشهورين وتباحث معهم ليصبح خليفة البخاري في خراسان، وقد قيل عنه: «مات البخاري فلم يخلف في خراسان بمثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد».
وقد ألف العديد من الكتب المتميزة في علم الحديث والتاريخ والأدب، ومنها: أسماء الصحابة، التاريخ، الجامع، الشمائل النبوية، الزهد، الأسماء والكنى.
وكانت وفاة الترمذي في سنة 279 هـ.
طلحة.. شهيد يمشي على رجليه
ولد طلحة بن عبيد الله سنة 25 قبل الهجرة، وهو من أوائل الصحابة الذين دخلوا في دين الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، لم يشارك في معركة بدر لمشاركته في مهمة مراقبة قافلة قريش التي كان يرأسها أبو سفيان، لكنه قاتل في أحد ودافع عن النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى أصيبت ذراعه بعجز دائم في هذه المعركة التي أصيب فيها مع من أصيبوا، وثبت في الدفاع عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع نسيبة بنت كعب المازنية التي بقيت تقاتل وتدافع عن الرسول (صلى الله عليه وسلم).
وعلى الرغم مما لاقاه طلحة من عذاب بسبب إسلامه لم يضعف يوماً ولم يزدد إلا إصراراً وثباتاً، ومن صفاته الحميدة: الحكمة والتقوى وسداد الرأي وحسن المشورة وسعة العلم، ويكفي ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال عنه: «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر الى طلحة بن عبيد الله» (سنن الترمذي).
موسى بن نصير.. أعرج الأندلس والفاتح العظيم
إنه القائد الإسلامي المعروف بفتوحاته في شمال إفريقيا وبلاد الأندلس في عهد الخلافة الأموية، ولد موسى بن نصير سنة 19 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وينتمي الى قبيلة بكر بن وائل التي تقطن بلاد الحيرة في العراق، وكان موسى أعرج، وقد نشأ نشأة علم وتقوى، وتلقى علومه الأولى على يد كبار الصحابة والتابعين وخاصة في علوم الحديث الشريف.
معاذ بن جبل.. إمام العلماء الأعرج!
كان معاذ بن جبل يقيم في المدينة المنورة عندما دعاه مصعب بن عمير للإسلام بعد بيعة العقبة الأولى، وكان عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً، وفي بيعة العقبة الثانية حضر مع وفد المدينة والتقى بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، فهو من الأنصار السابقين إلى الاسلام، وعند عودته إلى المدينة كون مع عدد صغير من أقرانه جماعة تهدف إلى كسر الأوثان وانتزاعها من بيوت المشركين، وكان من أثر حركتهم وبركتها إسلام واحد من كبار رجالات المدينة هو عمرو بن الجموح.
عرف عن معاذ بن جبل كرمه وحسن أخلاقه وذكاؤه، وقد قال عمر بن الخطاب عندما حانت وفاته: «لو كان معاذ بن جبل حياً وليته ثم قدمت على ربي عز وجل فسألني من وليت على أمة محمد؟ لقلت: وليت عليهم معاذ بن جبل بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل إمام العلماء يوم القيامة، وقد كان أعرج».
عمرو بن الجموح.. رآه النبي يطأ في الجنة بعرجته!
ومن صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمرو بن الجموح، الذي عانى من العرج الشديد في إحدى ساقيه، وكان من سادة العرب وأشرافهم، أسلم أولاده وزوجته حين دعاهم مصعب بن عمير للإسلام أثناء سفارته لدعوة أهل المدينة الى الإسلام، وأسلم معهم معاذ بن جبل صديق أولاده، وعندما سمع عمرو بن الجموح ولده معاذا وهو يقرأ سورة الفاتحة التي علمه إياها مصعب أعجب بسورة الفاتحة وجمال قول ولده، وبعد فترة دخل الإسلام بعد اقتناعه به.
شهد عمرو بيعة العقبة الثانية، وشهد مع الرسول معركتي بدر وأحد رغم عرجه الشديد قائلاً لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): «فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة»، وتوجه نحو القبلة داعياً ربه: «اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك ولا تردني إلى أهلي خائباً»، واستشهد معه ولده خلاد في معركة أحد.
وبجانب هؤلاء العظماء الكثير والكثير الذين أثروا تاريخنا، أمثال: العالم الفقيه عطاء بن أبي رباح، وابو الحسن النحوي "ابن سيده"، والامام الترمذي، والمجاهد الصابر عمار بن ياسر، وشاعر الدعوة حسان بن ثابت، وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري .. الذين صبروا على المحنة فنالوا المحنة؛ فابدعوا في الدنيا ولهم الأجر في الآخرة..
بقلم الكاتب: مجدي إبراهيم